ال صاحبُ شرطة المأمون العباس بن المُسيّب : دخلتُ يومًا مجلسَ أميرِ المؤمنين ببغداد ، وبين يديه رجلٌ مُكبَّلٌ بالحديد : فلمَّا رآني ، قال لي : يا عباس!! قلت : لبّيك يا أمير المؤمنين!! قال : خُذ هذا إليك ، واحتفظ به ، وبكّر به إلىّ في غد!! . فدعوتُ جماعةً فحملوه ولم يقدر أن يتحرك!! فقلت في نفسي : مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يجبُ أن يكون معي في بيتي ، فأمرتهم فتركوه في مجلسٍ لي في داري . ثم أخدتُ اسأله عن قضيّته وعن حاله ، ومن أين هو ؟!! فقال : أنا من دمشق ، فقلت : جزى الله دمشق وأهلها خيراً ، فمن أنت من أهلها ؟!! قال : وعمّن تسأل ؟!! قلت : أتعرف فلاناً ؟!! قال : ومن أين تعرفُ ذلك الرجل ؟!! قلت : وقعت لي قضيّة معه ، فقال : ما كنت بالذي أعرّفُك خبره حتى تعرّفني قضيّتك معه!! ، فقلت : كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى إن الوالي تدلّى في زنبيل " قـُفة " من قصر الحجاج ، وهرب هو وجميع أصحابه ، وهربت في جملة القوم . فبينما أنا هاربٌ في بعض الدروب إذا جماعة يعدون خلفي ، فما زلت أعدو أمامهم ، حتى فُتُّهُم ، فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك ، وهو جالس على باب داره ، فقلت : أغثني أغاثك الله!! فقال : لا بأس عليك!! ادخل الدار ، فدخلت ، فقالت لي امرأته : ادخل الحجلة فدخلتها ، - الحجلة : غرفة تعد للعروس في جوف البيت - ووقف الرجل على باب الدار فما شعرتُ إلا وقد دخل ، والرجالُ معه يقولون : هو والله عندك!! فقال : دونكم الدار ، فتشوها ، ففتَّوشها حتى لم يبقَ إلا البيت الذي كنت فيه ، فقالوا : هاهنا ، فصاحت بهم المرأة وانتهرتهم ، فانصرفوا . وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعةً ، وأنا قائم في الحجلة أرجُف ، ما تحملني رجلاي من شدَّة الخوف ، فقالت المرأة : اجلس لا بأس عليك ، فجلست ، فلم ألبث أن دخل الرجل وقال : لا تخف ، فقد صرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى . فقلت له : جزاك الله عني خيراً!! ثم ما زال يعاشرني أحسن المعاشرة وأجملها ، وأفردَ لي مكانًا في داره ، ولم يفتـُر عن تفقُّد أحوالي . فأقمتُ عنده أربعة أشهر في أرغدِ عيش وأهنئه إلى أن سكنت الفتنة وهدأت ، وزال أثَرها ، فقلت له : أتأذن لي في الخروج حتى أتفقّدَ خبر غلماني ، فلعلي أن أقفُ لهم على أثر أو خبر ، فأخذ عليّ المواثيق بالرجوع إليه ، فخرجتُ وطلبتُ غِلماني ، فلم أرَ لهم أثراً ، فرجعت إليه وأعلمته الخبر . وهو مع هذا كله لا يعرفُني ولا يسألني ، ولا يعرف اسمي ، ولا يُخاطبني بغير الكُنية . ثم قال : علام تعزم ؟!! فقلت : عزمت على التوجه إلى بغداد ، فقال : القافلة تخرج بعد ثلاثة أيام ، وهأنذا قد أعلمتك!! فقلت له : إنك تفضّلت عليّ هذه المدة ، ولك عليّ عهدٌ ألا أنسى لك هذا الفضل ولأُكافئنّك ما استطعت . ثم دعا غلامًا له أسود وقال له : أسرِج الفرس ، ثم جهّز آلةَ السفر ، فقلت في نفسي : ما أظنُّ إلا أنه يريدُ أن يخرجَ إلى ضيعةٍ له أو ناحية من النواحي ، فأقاموا يومهم ذلك في تعبٍ وكدّ ، فلما كان يوم خروج القافلة جاءني في السحَر وقال : يا أبا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة ، وأكره أن تنفرد عنها ، فقلت في نفسي : كيف أصنعُ ، وليس معي ما أتزوّد به ، ولا ما أكثري به مركوبًا!! ثم قمت ، فإذا هو وامرأته يحملان أفخرَ الثياب ، وخفّين جديدين ، وآلة السفر . ثم جاءني بسيف ومِنطقة فشدهما في وسطي ، ثم قدّم البغل فحمل عليه الصناديق وفوقها مفرشان ، ودفع إليّ نسخةً بما في الصناديق وفيها خمسة آلاف درهم ، وقدّم إلي الفرس الذي كان أنعله بسرجه ولجامه وقال لي : اركب ، وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك . وأقبل هو وامرأته يعتذران إليّ من التقصير في أمري ، وركب معي فشيعني ، وانصرفت إلى بغداد وأنا أتوقّعُ خبره ، لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته ، واشتغلتُ مع أمير المؤمنين ، فلم أتفرّغ أن أُرسل إليه من يكشفُ خبره ، فلهذا اسألُ عنه!! . فلما سمع الرجل الحديث قال : لقد أمكنك الله عز وجل من الوفاء له ، ومكافأته على فعله ومجازاتِه على صنيعه بلا كُلفةٍ عليك ، ولا مؤونةٍ تَلزمُك . فقلت : وكيف ذلك ؟!! قال : أنا والله ذلك الرجل!! وإنما الضّرُّ الذي أنا فيه غيّرَ عليك حالي ، وما كنتَ تعرفُه منّي . وأقبل يذكرني بأشياء يتعرف بها إليّ حتى أثبته وعرفته فما تمالكت أن قمت إليه فقبّلت رأسه ، وقلت له : ما الذي أصارك إلى ما أرى ؟!! فقال : هاجت فتنة بدمشق مثل الفتنة التي كانت في أيامك ، فنُسِبت إليّ وبعث أمير المؤمنين بجيوش ، فأصلحوا البلد ، وحُملت إليه وقد ضُرِبتُ إلى أن أشرفتُ على الموت!! وأمري عنده عظيم ، وخَطبي لديه جسيم ، وهو قاتلي لا محالة ، وقد أُخرِجتُ من عند أهلي بلا وصيّةٍ ، وقد تبعني من غِلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري ، وهو نازل عند فلان ، فإن رأيت أن تجعل مكافأتك لي أن تبعث إليه حتى يحضر فأوصيه بما أريد ، فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حدَّ المكافأة لي ، وقمتَ لي بوفاء عهدك!! قلت : يصنعُ الله خيرًا . ثم أحضر العباس : حدّادًا في الليل فكّ قيوده ، وأزال ما كان فيه من الأنكال ، وأدخله حمّام داره ، وألبسه من الثياب ما احتاج إليه ، ثم سيَّر مَن أحضَرَ إليه غلامه . فلما رأه جعلَ يبكي ويوصيه ، فاستدعى العباسُ نائبه ، وقال عليّ بالأفراس والهدايا ، ثم أمره أن يشيّعه إلى حَدَّ الأنبار!! فقال له : إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيمٌ ، وخطبي جسيم ، وإن أنتَ أحتججت بأني هربتُ بعثَ في طلبي كلّ من على بابه ، فأُردّ وأقتل . فقال العباس : انجُ بنفسك ودَعني أدبّر أمري!! فقال : والله لا أبرحُ بغداد حتى أعلمَ ما يكون من خبرك!! فإن احتجتَ إلى حضوري حضرت . فقال العباس : إن كان الأمرُ على ما تقول ، فلتكن في موضع كذا ، فإن أنا سَلِمتُ في غداة غدٍ أعلمتـُك ، وإن أنا قـُتِلتُ فقد وَقَيتـُكَ بنفسي كما وقيتني!! ثم تفرّغ العباس لنفسه ، وتحنّظ وجهّز له كفنًا . قال العباس : فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسلُ المأمون في طلبي ، وهم يقولون : هاتِ الرجل معك وقُم!! فتوجّهتُ إلى دار أمير المؤمنين ، فإذا هو جالسٌ ينتظر . فقال : أين الرجل ؟!! فسكتُّ!! فقال : ويحك!! أين الرجل ؟!! فقلت : يا أمير المؤمنين ، اسمع مني . فقال : لله عليّ عهدٌ لئن ذكرتَ أنه هرب لأضرِبنَّ عُنقك!! فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ، ولاكن اسمع حديثي ، ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري!! قال : قل . فقلت : يا أمير المؤمنين ، كان من حديثي كيت وكيت ، وقصصتُ عليه القصة جميعها ، وعرّفتـُه أني أريدُ أن أفيّ له ، وأكافئه على فعله معي ، وقلت : أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين : إما أن يصفحَ عني ، فأكون قد وفيتُ وكافأتُ وإما أن يقتلني فأقيَه نفسي ، وقد تحنّطت ، وها هو ذا كفني يا أمير المؤمنين!! . فلما سمع المأمون الحديث قال : ويلك!! لا جزاك الله عن نفسك خيرًا ، إنه فعل بك ما فعل من غير معرفةٍ ، وتكافئُه بعد المعرفة بهذا ؟!! هلا عرّفتني خبرَه ، فكنا نكافئُه عنك ، ولا نقصّر في وفائك له!! فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنه هاهنا وقد حلف ألا يبرحَ حتى يعرفَ سلامتي ، فإن احتجت إلى حضوره حضر . فقال المأمون : وهذه منّةٌ أعظمُ من الأولى لله دركم!! اذهب إليه الآن ، فطيّب نفسه وسكّن روعه ، وائتني به حتى أتولّى مكافأته . فأتيتُ إليه وقلت له : ليزُل خوفُك ، إن أمير المؤمنين قال كذا وكذا!! فلما مَثَلَ بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه ، وأدناه من مجلسه وحدّثه ، حتى حضر الغداء فأكل معه ، وخلع عليه ، وعرض عليه أعمال دمشق ، فاستعفى!! ، فأمر له بصلةٍ عظيمة ووضع الخراج عن أرضه وكتب إلى عامله بدمشق بالوصيّةِ به .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق