الجمعة، 26 فبراير 2016

قصة مصارعة ركانة وكيف أراه صلى الله عليه وسلم الشجرة التي دعاها فأقبلت

قصة مصارعة ركانة وكيف أراه صلى الله عليه وسلم الشجرة التي دعاها فأقبلت

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال: وكان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشا فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟».
قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟».
قال: نعم!
قال: «فقم حتى أصارعك».
قال: فقام ركانة إليه فصارعه فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ثم قال: عد يا محمد فعاد فصرعه.
فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري»؟
قال: وما هو؟
قال: «أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني».
قال: فادعها..
فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لها: ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها.
قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.
هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلةً بهذا البيان.
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه.
أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الترمذي: غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة.
قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلمفصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال: يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك.
وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّ عليه غنمه.
وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب (دلائل النبوة) بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله وبه الثقة.
وقد تقدم عن أبي الأشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المسجد، يجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار، مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين.
هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا.
فأنزل الله عز وجل فيهم: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 52-54] ..
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له: جبر، عبد لبنى الحضرمي، وكانوا يقولون والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلاجبر، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل: 103] .
ثم ذكر نزول (سورة الكوثر) في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أبتر أي: لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره.
فقال الله تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أي: المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفا من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان صدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب، وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد.
وقد روي عن أبي جعفر الباقر: أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة.
ثم ذكر نزول قوله: { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } وذلك بسبب قول أبي بن خلف وزمعة بن الأسود والعاص ابن وائل والنضر بن الحارث: لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك.
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل ابن هشام فهمزوه واستهزؤا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم: { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن }.
قلت: وقال الله تعالى: { ولقد استهزئ برسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين }.
وقال تعالى: { إنا كفيناك المستهزئين }.
قال سفيان: عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: المستهزؤن: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل السهمي.
فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة فأشار جبريل إلى أنمله وقال: كفيته.
ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه وقال: كفيته.
ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال: كفيته.
ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال: كفيته.
ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته..
فأما الوليد: فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها، وأما الأسود بن عبد يغوث: فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الأسود بن المطلب: فعمي.
وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا.
وجعل يقول: يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني.
فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.
وأما الحارث بن عيطل: فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها.
وأما العاص بن وائل: فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها.
وقال غيره في هذا الحديث: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة - يعني شوكة - فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.
رواه البيهقي بنحو من هذا السياق.
وقال ابن إسحاق: وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر.
وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم؛ الأسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله ولده».
والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة.
وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر: 94] .
وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمرَّ به الأسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي.
ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا.
ومرَّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلا له من خزاعة فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشا يسيرا، فانتقض بعد ذلك فمات.
ومرَّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحا فقتله..
ثم ذكر ابن إسحاق: أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم: خالد وهشام والوليد.
فقال لهم: أي بني، أوصيكم بثلاث، دمي في خزاعة فلا تطلوه، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به.
وكان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه - وهو صداقها -.
فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الأمر.
ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا.
قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله، وكان شريفا في قومه وكانت ابنته تحت أبي سفيان - وذلك بعد بدر - فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبوه غائبا، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه: أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس؟
وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر، فقال: بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا وقد ذهب أشرافنا يوم بدر.
ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف؟
قال ابن إسحاق: فذكر لي بعض أهل العلم: إن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [البقرة: 278] وما بعدها.
قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجر الإسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الأسلمي خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم.
قال السهيلي: يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها.
قال ابن هشام: فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان وهي ترى أن ضرارا أخوه.
فقال لها عمر: لست بأخيه إلا في الإسلام، وقد عرفت منتك عليه فأعطاها على أنها بنت سبيل.
قال ابن هشام: وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: انج يا ابن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الإسلام رضي الله عنهما.

ماشطة ابنة فرعون

قصة ماشطة ابنة فرعون
دراسة وتحليل
تمهيد:

إن القارئ في سير الصالحين والعُبّاد والزهاد يجد العجب العجاب، من مواقف القوم في العبادة والخشية، والصبر على البلاء، والقوة في إظهار الحق، وإنكار المنكر، وبذل المال والوقت والجهد والنفس.
ولا عجب إذا ما عرفنا أن القوم قد خالط الإيمان قلوبهم، وسكنت الآخرة في قرارة نفوسهم، وانشغلت عقولهم بالتفكير في لقاء مولاهم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. 
ومن كانت هذه حاله ، فلا غرابة أن تخرج الحكمة من أقواله وأفعاله، ويكون قدوة في الخير وهاديا ودليلا إليه.
هذه قصة بطولية سطرتها امرأة في بيت واحد من أكبر الظلمة على وجه الأرض: إنه فرعون.
فيلقي الله سبحانه الشجاعة في قلب من شاء من عباده، ويصدح ناس بالحق في زمن ومكان لم يكن أحد يتوقع منهم، أو من أمثالهم ذلك.
هذه حكاية امرأة سطر الله اسمها بحروف من ذهب على مدار التاريخ ، وذاع سيطها في الأرض والسماء ، وشم رسول الله صلى الله عليه وسلم رائحتها العطرة في رحلة الإسراء والمعراج.
إنها امرأة ضحت بكل أسرتها في سبيل الله، في سبيل إعلاء كلمة: لا إله إلا الله في بيت الطاغية: فرعون.
هذه المرأة وإن لم يكن لها ذلك المركز الكبير في القوم، إلا أن الله حفظ اسمها أكثر من أسماء: الملوك والزعماء والأغنياء وأصحاب الجاه والنفوذ ، الذين طحنهم الثرى، وطوتهم بهم الأرض، إلا أن الذكرى الخالدة تكون لصاحب الحق الذي عرف الله حق المعرفة.
فليست الشهرة بالمناصب وكثرة الظهور وإنما بتقوى الله وذكره سبحانه.
ولنتعرف على قصة تلك المرأة كما جاءت في الحديث الصحيح:


نص الحديث:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ.
فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟
فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا.
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟
قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ.
فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟
قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ.
قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟
قَالَتْ: نَعَمْ.
فَأَخْبَرَتْهُ ، فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي. 
قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. (وفي رواية ابن حبان: قَالَتْ رَبِّي وَرَبُّكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ)
فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا. 
قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً.
قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ 
قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا.
قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ. 
قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ.
قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ.
قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ : عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ".


تخريج الحديث:
رواه أحمد: 2682، وابن حبان في صحيحه: 2904.
ورواه الحاكم في المستدرك: 3835، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه. 
وقال الذهبي قي التلخيص : صحيح 
المستدرك على الصحيحين مع تعليقات الذهبي في التلخيص: 2/ 538.
جاء في فتاوى موقع الإسلام سؤال وجواب:
وقال ابن كثير في " التفسير " (3/15) : " إسناده لا بأس به " ، وصحح إسناده العلامة
أحمد شاكر في تعليقه على المسند (4/295).
وقال الأرنؤوط في تخريج المسند (5/30 - 31 رقم 2821) : " إسناده حسن ، فقد سمع حماد بن سلمة من عطاء قبل الاختلاط عند جمع من الأئمة " .أ هـ
إذن: القصة صحيحة ثابتة.


غريب الحديث:
المدرى: حديدة يُسَرَّح بها الشعر. الفائق في غريب الحديث والأثر: 1/ 421.


تحليل القصة وفوائدها
 [1]:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ.
فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟
فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا.
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟
قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ.
فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي.
قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ.

1- رأى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الله الكبرى في رحلة الإسراء والمعراج، قال سبحانه: "ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى" (النجم: 18).
2- كان فرعون يتخذ لنفسه ولأولاده الخدم ، حتى كان لابنته امرأة خاصة تمشط لها شعرها.
3- الإيمان عندما يجد مسلكا في قلوب العباد، فإنهم يرتاحون له، فهذه الماشطة في قصر فرعون، كانت مؤمنة بالله تعالى، ومن قبلها من هو أعظم منها: امرأة فرعون، وقد يكون هناك ارتباط وتعاون على البر والتقوى بين هذه الماشطة وامرأة فرعون، وقد تكون واحدة منهما سببا في هداية الثانية.
4- يسخر الله من يهز عروش الظلمة بإيمانهم بالله من داخل بيوتهم، كامرأة فرعون ، وماشطة ابنته.
5- لا بد أحيانا من كتم الإيمان كما كتمته هذه المرأة، وكتمته من قبل زوجة فرعون ، ومؤمن آل فرعون الذي نصر الله به نبيه موسى عليه الصلاة والسلام.
6- مهما كتم الإنسان ما يجري في أعماق نفسه، فلا بد أن تدل عليه تصرفاته وحركاته وأقواله، فيغفل الإنسان عن نفسه ، ويتصرف بما في داخله، فهذه المرأة قالت ما يقوله أي مسلم إذا سقط من يده شيء: بسم الله.
7- وصل الكفر بفرعون أن ادعى الألوهية والربوبية، وحمل الناس على الإيمان به، ومن لم يفعل: يعذبه ويقتله.
8- كانت ابنة فرعون مغرورة بأبيها متجاهلة لفطرتها التي فطرها الله عليها، مؤمنة بربوبية والدها الضال المجرم، ولا ندري هل كانت هذه البنت من امرأته المؤمنة، أم من امرأة أخرى.
9- وكونها ربما من هذه الزوجة المؤمنة لا يضيرها، لأن الهداية بيد الله تعالى، وما استطاع نوح عليه الصلاة والسلام أن يجعل ابنه على طريقه ونهجه.
قال تعالى: "وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (هود: 42، 43)
10- ظنت البنت أن المقصود بقول الماشطة: بسم الله، هو والدها، فسألتها عن ذلك، أبي؟
11- عزمت الماشطة أن تقف الموقف الإيماني الذي يفرضه الإيمان رغم ما يترتب عليه من النتائج، التي ربما تقضي عليها وأسرتها، ولذلك كانت صريحة في الإجابة.
12- فأخبرتها وبكل صراحة وجرأة أنها مؤمنة بالله تعالى ، وأن والدها عبد لله تعالى.
13- في الحديث دليل على أن الأموات ينعمون ، أو يعذبون في حياة البرزخ، وتنعم أرواح المؤمنين بصعودها إلى العالم العلوي في السموات لتتمتع بنعم الله الخاصة بأهل الإيمان ، وقد شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحة هذه المرأة الطيبة في رحلة الإسراء والمعراج. 
وقد دل ظاهر القرآن الكريم وصريح السنة المطهرة على عذاب القبر.
فمن القرآن: قول الله تعالى عن آل فرعون: "وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (غافر: 46،45).
فهذه الآيات تدل على أن آل فرعون يعرضون على النار في الصباح والمساء، كل ذلك قبل يوم القيامة، لأنه قال بعدها: " وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ "
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 
" إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ".
رواه البخاري: 3001، ومسلم: 2866.
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ ، فَقَالَتْ لَهَا : أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. 
فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَقَالَ : نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ. 
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
رواه البخاري: 1283، ومسلم: 903.


قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ؟
قَالَتْ: نَعَمْ.
فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي. 
قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. (وفي رواية ابن حبان: قَالَتْ رَبِّي وَرَبُّكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ)

1- ظنت ابنة فرعون أن المرأة ستتوسل إليها أن لا تخبر والدها عما قالته.
2- أو: أنها ستتراجع عن مقالتها مقابل مصلحة ، أو مركز تعطيه ابنة فرعون لتلك الماشطة، فعند هؤلاء الظلمة تتعدد المصالح والمنافع ، لأنهم يستولون على كل خيرات الرعية.
3- حسمت المرأة الصالحة الأمر فلم تتوسل لها واستعلت بإيمانها.
4- قد يفرح بعض من يكتمون إيمانهم إذا اكتشف أمرهم رغم النتائج الأليمة التي تعقب ذلك، وذلك لأن الشوق لما عند الله يجعل المسلم يزهد في هذه الدنيا، ويطلب حياة كريمة عند ربه يوم يلقاه.
5- أخبرت الفتاة المغرورة والدها المجرم الطاغية، لأنها خشيت أن يذاع أمر هذه المرأة ويهتز سلطان والدها ، فأولاد الملوك ينتظرون ميراث والدهم ، فلا بد من المحافظة على سلطانه ، حتى يكون الميراث قيما.
6- لم تهب الماشطة من ذلك الجبار واستعلت أمام الطاغية بإيمانها، وتحدثت بكل جرأة أنها مؤمنة بالله، وأن الله ربها ورب فرعون.
7- وقع في رواية ابن حبان: "ربي وربك من في السماء"، وفيه أن المرأة أثبتت صفة العلو لله تعالى، وهذا ما قرره قرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه جواب لمن سأل: أين الله؟ فالجواب: في السماء.
فعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: "....كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا.
وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟
قَالَ: ائْتِنِي بِهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا.
فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ؟ 
قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.
قَالَ: مَنْ أَنَا؟ 
قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ.
رواه مسلم: 836.
فاستدل النبي صلى الله عليه وسلم على إيمانها بمعرفتها أين الله.
وسبحان هذا أمر فطري في النفس البشرية ، فلو سألت طفلا صغيرا ، أين الله؟
لرفع بصره على السماء.


فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا. 
قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً.
قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ 
قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا.
قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ. 

1- استعمل الطاغية وسيلة قبيحة مؤلمة في تعذيب المرأة المؤمنة، فجاء بأداة مصنوعة على شكل بقرة، فأشعلت تحتها النار حتى حميت ليلقي بها وأولادها فيها.
2- ولكن الإيمان يصنع بالنفوس ما لا يتصوره الطغاة، إنهم يستروحون العذاب في سبيل الله.
3- طلبت منه طلبا: ظن الطاغية أنها ستتراجع عن موقفها ، أو أنها تتوسل إليه.
4- طلبت منه أن يجمع بين عظامها وعظام أولادها في قبر واحد، وهذا يدل على حرص المسلم على رفاته بعد موته، والظاهر أن شدة حبها لأولادها أرادات أن يكونوا معها في قبر واحد.
5- وفي الحديث جواز أن يطلب المسلم من الطغاة أمرا له فيه صلاح، كما طلبت منه هذه المرأة.



قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ.
قَالَ: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ.
قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَشَاهِدُ يُوسُفَ وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ".

1- قد يظن البعض أن هذه المرأة قد أساءت إلى أولادها حينما أوقعت فيهم هذا العذاب، ولكن أهل الإيمان ينظرون إلى مثل هذه الأمور من منطق آخر، فهي تعتقد أن ما فعلته خير عظيم يعمها وأولادها عند الله.
2- صار المجرم يلقي أولادها أمامها في النار، وفي ذلك من العذاب النفسي ما تتفطر له القلوب. 
ولك أن تتصور هذا المنظر الأليم، الأولاد فلذة الأكباد الذين لطالما ركضوا إليها، وارتموا بين يديها، طالما ضمتهم إلى صدرها، وألبستهم ثيابهم بيدها، ومسحت دموعهم بأصابعها.
ثم ها هم اليوم ينتزعون من بين يديها ويقتلون أمام ناظريها، كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين العذاب بكلمة كفر تسمعها فرعون، لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى، فلله درها ما أعظم ثباتها وأكثر ثوابها. 
هذا الموقف يطرح تساؤلا يثير في النفس كوامن الحسرة والحرقة، ويحرك فيها عوامل المنافسة والمسابقة، تساؤلا يقول: أين نحن من هؤلاء؟!
هذه همة امرأة في سبيل الله، وكم من رجل اليوم يُطلبُ منه ترك محرم من المحرمات، يطلب منه ترك المسلسلات الهابطة ، والأفلام الفاجرة فيقول: لا أستطيع. 
والآخر يقال له: اترك الغناء المحرم ، فيقول: لا أستطيع ، حاولت ولم أفلح.
وثالث يقال له: اترك التدخين فيقول أيضا: لا أستطيع حاولت مرارا وفشلت. 
لا تستطيعون! لا ضير ولا بأس ، فالله عز وجل ليس بحاجة لترككم لهذه المحرمات ، ومُلْكُ الله لن يزيد بطاعة المطيع ، ولن ينقص بمعصية العاصي.
يقول سبحانه: "وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ" (إبراهيم: 8).
فلـو كن النسـاء كمـن ذُكِرْنَ لفضِّلت النساء علـى الرجال
فمـا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكيـر فخـر للهـلال
3- يدل هذا اللون من العذاب الذي استعمله فرعون على خلو قلوب المجرمين من الرحمة والشفقة.
عندما نسمع عن ألوان العذاب الذي يستعمله الجبارون في هذا الزمان، من الحكام وأعوانهم، يستغرب الواحد منا، ولكن هذه الأساليب قديمة استعملها فرعون وغيره من قبل. 
4- لقد جعل الله لها في السموات رائحة عطر طيبة تشم إلى يوم القيامة، وقد فاحت منهم رائحة النار وهي تحرق أجسادهم، وهذا من إكرام الله لأوليائه الذين يبذلون نفوسهم رخيصة في سبيله.
قال تعالى: "وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ" (غافر: 46،45).
فبمقدار هوانها على فرعون، جعل الله لها ولأولادها جزاء عظيما يتحدث عن ذكراهم الخلق إلى يوم يلقونه.
5- لقد أشفقت المرأة على طفل بين يديها رضيع، وكأنها أرادت أن ترجع لأجله لا لأجلها، لأنها رأت أولادها كلهم يلقون أمامها.


وهنا تحدث الكرامة الربانية العظيمة لهذه المرأة:
طفلها الرضيع يتكلم في المهد

يتحدث الطفل لأمه أن لا تقلق لأجله، وأنطقه الله لها ليكون دليلا على صدق إيمانها، وموقفها، فقال لها: يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
ولما سمعت المرأة هذه الآية الربانية التي أيدها الله بها، زادت من يقينها وإيمانها بالله تعالى، فما كان منها إلا أن اقتحمت في النار.
ماتت المرأة وبقيت ذكراها، ولعل الميت يبكي عليه أعز الناس إليه، بضع أيام، ولعل هذه المرأة بكى عليها الصالحون بعد مئات وآلاف السنين شفقة عليها وعلى أطفالها.
لعل الواحد منا يجد بعض الناس يدعون له بعد موته أياما، وهذه المرأة يدعو الناس لها آلاف السنين، أن يتغمدها الله بواسع رحمته، ويسكنها فسيح جناته.
فهلا تركت لنفسك ذكرى طيبة يتذكرك الناس بها، فيدعون الله لك ، فينفعك الله بهذا الدعاء.
لقد ماتت المرأة ومات فرعون، ولكن شتان بين مؤمن وكافر، شتان بين مصيرها ومصير فرعون.
شتان بين من تفوح منه رائحة المسك، وبين من يعرض على النار غدوة وعشية، شتان بين من يتحدث عنه الناس بالخير، وبين من تلعنه الخلائق.
ومن دخل الجنة نسي ما أصابه في الدنيا ، فمن هم سكان الجنة؟
هل هم أهل شهوات ومعاص ؟ 
كلا و الله ، إنهم أهل الصيام مع القيام، وطيب الكلمات والإحسان.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟
فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ.
وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟
فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ"
رواه مسلم: 5021.

[1]صحيح القصص النبوي: ص 287.
بالإضافة إلى:
موقع المنبر: http://www.alminbar.net/alkhutab/khutbaa.asp?mediaURL=8756
وموقع مجلة الابتسامة: www.ibtesama.com