الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

قباث بن رزين اللخمي وقصة أسره

 قباث بن رزين اللخمي وقصة أسره والحديث الذي دار بينه و بين الخليفة الاموي عبدالملك

الكتب » الفرج بعد الشدة للتنوخي »
الباب الخامس » من خرج من حبس أو أسر واعتقال إلى سراح وسلامة وصلاح ... »
أسره الروم في أيام معاوية وأطلقوه في أيام عبد الملك ...
روى حميد ، كاتب إبراهيم بن المهدي ، أن إبراهيم حدثه ، أن مخلدا الطبري ، كاتب المهدي على ديوان السر ، حدثه أن سالما مولى هشام بن عبد الملك ، وكاتبه على ديوان الرسائل ، أخبره ، أنه كان في ديوان عبد الملك يتعلم كما يتعلم الأحداث في الدواوين ، إذ ورد كتاب صاحب يريد الثغور الشامية ، على عبد الملك ، يخبره فيه أن خيلا من الروم تراءت للمسلمين ، فنفروا إليها ، ثم عادوا ومعهم رجل كان قد أسر في أيام معاوية بن أبي سفيان ، فذكر أن الروم لما تواقفوا مع المسلمين ، أخبروهم أنهم لم يأتوا لحرب ، وإنما جاءوا بهذا المسلم ليسلموه إلى المسلمين ؛ لأن عظيم الروم أمرهم بذلك.
وذكر صاحب البريد ، أن النافرين ذكروا ، أنهم سألوا المسلم عما قال الروم ، فوافق قوله قولهم ، وذكر أن الروم قد أحسنوا إليه ، فانصرفوا عنهم ، وإني سألته عن سبب مخرجه ، فذكر أنه لا يخبر بذلك أحدا دون أمير المؤمنين.
فأمر عبد الملك بإشخاص المسلم إليه ، فأشخص إلى دمشق.
فلما دخل على عبد الملك ، قال له : من أنت ؟ قال : قتات بن رزين اللخمي.
قال مؤلف هذا الكتاب : كذا كان في الأصل الذي نقلت منه : قتات ، وأظنه خطأ ؛ لأن المشهور قباث بن رزين اللخمي ، وقد روى الحديث عن علي بن رباح اللخمي ، عن عقبة بن عامر الجهني ، أو لعله غيره ، والله أعلم.
رجع الحديث : أسكن فسطاط مصر في الموضع المعروف بالحمراء ، أسرت في زمن معاوية ، وطاغية الروم إذ ذاك توما بن مرزوق.
فقال له عبد الملك : فكيف كان فعله بكم ؟ قال : لم أجد أحدا أشد عداوة للإسلام وأهله منه ، إلا أنه كان حليما ، فكان المسلمون في أيامه أحسن أحوالا منهم في أيام غيره ، إلى أن أفضى الأمر إلى ابنه ليون ، فقال في أول ما ملك : إن الأسرى إذا طال أسرهم في بلد أنسوا به ، ولو كان على غاية الرداءة ، وليس شيء أنكأ لقلوبهم من نقلهم من بلد إلى بلد ، فأمر باثني عشر قدحا ، فكتب على رأس كل قدح اسم بطريق من بطارقة البلدان ، ويضرب بالقداح في كل سنة أربع مرات ، فمن خرج اسمه في القدح الأول ، حول إليه المسلمون ، فاحتبسهم عنده شهرا ، ثم إلى الثاني ، ثم إلى الثالث ، ثم تعاد القداح بعد ذلك.
فكنا لا نصير عند أحد من البطارقة ، إلا قال لنا : احمدوا الله حيث لم يبتلكم ببطريق البرجان ، فكنا نرتاع لذكره ، ونحمد ربنا إذ لم يبتلنا به ، فمكثنا على ذلك سنين .
ثم ضربت القداح ، فخرج الأول والثاني لبطريقين ، والثالث لبطريق البرجان ، فمر بنا في الشهرين غم كبير ، نترقب المكروه.
ثم انقضى الشهران ، فحملنا إليه ، فرأينا على بابه من الجمع خلاف ما كنا نعاين ، ورأينا من زبانيته من الغلظة خلاف ما كنا نرى ، ثم وصلنا إليه ، فتبين لنا من فظاظته وغلظته ، ما أيقنا معه بالهلكة ، ثم دعا بالحدادين ، فأمر بتقييد المسلمين بأمثال ما كان يقيدهم به غيره ، فلم يزل الحديد يعمل في رجل واحد واحد ، حتى صال الحداد إلي ، فنظرت إلى وجه البطريق ، فرأيته قد نظر إلي نظرا بخلاف العين التي كان ينظر بها إلى غيري ، ثم كلمني بلسان عربي ، فسألني عن اسمي ونسبي ومسكني ، بمثل ما سألني عنه أمير المؤمنين ، فصدقته عما سألني عنه.
ثم قال لي : كيف حفظك لكتابكم ؟ فأعلمته أني حافظ.
قال : اقرأ آل عمران ، فقرأت منها خمسين آية.
فقال : إنك لقارئ فصيح ، ثم سألني عن روايتي للشعر ، فأعلمته أني راوية.
فاستنشدني لجماعة من الشعراء ، فقال : إنك لحسن الرواية.
ثم قال لخليفته : إني قد ومقت هذا الرجل ، فلا تحدده.
ثم قال : وليس من الإنصاف أن أسوءه في أصحابه ، ففك الحديد عن جماعتهم ، وأحسن مثواهم ، ولا تقصر في قراهم.
ثم دعا صاحب مطبخه ، فقال له : لست أطعم طعاما ، ما دام هذا العربي عندي ، إلا معه ، فاحذر أن تدخل مطبخي ما لا يحل للمسلمين أكله ، وأن تجعل الخمر في شيء من طبيخك ، ثم دعا بمائدته ، واستدناني حتى قعدت إلى جانبه.
فقلت له : فدتك نفسي وبأبي أنت ، وأحب أن تخبرني من أي العرب أنت ؟ فضحك ، وقال : لست أعرف لمسألتك جوابا ؛ لأني لست عربيا فأجيبك على سؤالك.
فقلت له : مع هذه الفصاحة بالعربية ؟ فقال : إن كان العلم باللسان ينقل الإنسان من جنسه إلى جنس من حفظ لسانه ، فأنت إذا رومي ، فإن فصاحتك بلسان الروم ليست بدون فصاحتي بلسان العرب ، فعلى قياس قولك ينبغي أن تكون روميا ، وأكون أنا عربيا.
فصدقت قوله ، وأقمت عنده خمس عشرة ليلة ، لم أكن منذ خلقت ، في نعمة ، أكبر منها.
فلما كانت ليلة ست عشرة ، فكرت أن الشهر قد مضى نصفه ، وأن الليالي تقربني من الانتقال إلى غيره ، فبت مغموما.
وصار رسوله إلي في اليوم السادس عشر ، يدعوني إلى طعامه ، فلما حضر الطعام بين أيدينا ، رأى أكلي مقصرا عما كان يعهد ، فضحك ، ثم قال لي : أحسبك يا عربي ، لما مضى نصف الشهر ، فكرت في أن الأيام تقربك من الانتقال عني إلى غيري ممن لا يعاملك بمثل معاملتي ، ولا يكون عيشك معه مثل عيشك معي ، فسهرت ، واعتراك لذلك غم غير طعامك ، فأعلمته أنه قد صدق .
فقال : ما أنا إن لم أحسن الاختيار لصديقي بحر ، وقد أمنك الله مما حذرت ، ولم ألبث في اليوم الذي وصلت إلي فيه ، حتى سألت الملك ، فصيرك عندي ، ما كنت في أرض الروم ، فلست تنقل عن يدي ، ولا تخرج منها إلا إلى بلدك ، وأرجو أن يسبب الله ذلك على يدي ، فطابت نفسي ، ولم أزل مقيما عنده ، إلى أن انقضى الشهر.
فلما انقضى ضرب بالقداح ، فخرج الأول ، والثاني ، والثالث ، لبطارقة غير الذي نحن عنده ، فحول أصحابي ، وبقيت وحدي.
وتغديت في ذلك اليوم مع البطريق ، وكان من عادتي أن أنصرف من عنده بعد غدائي إلى إخواني من المسلمين ، فنتحدث ، ونأنس ، ونقرأ القرآن ، ونجمع الصلوات ، ونتذاكر الفرائض ، ويسمع بعضنا من بعض ما حفظ من العلم وغيره ، فانصرفت ذلك اليوم بعد غدائي إلى الموضع الذي كنت أصير إليه ، وفيه السلمون ، فلم أر فيه أحدا إلا الكفرة ، فضاق صدري ضيقا تمنيت معه أني كنت مع أصحابي ، فبت بليلة صعبة لم أطعم فيها الغمض ، وأصبحت أكسف خلق الله بالا ، وأسوأهم حالا.
وصار إلي الرسول في وقت الغداء ، فصرت إليه ، فتبين الغم في أسرة وجهي ، ومددت يدي إلى الطعام ، فرأى مد يدي إليه ، خلاف مدي الذي كان يعرف ، فضحك ، ثم قال : أحسبك اغتممت لفراق أصحابك ؟ فأعلمته أنه صدق ، وسألته : هل عنده حيلة في ردهم إلى يده.
فقال : إن الملك لم ير أن ينقل أصحابك من يدي إلى يد غيري إلا ليغمهم بما يفعل ، ومن المحال أن يدع تدبيره في الإضرار بهم ، لميلي إليك ومحبتي لك ، وليس عندي في هذا الباب حيلة ، فسألته أن يسأل الملك إخراجي عن يده ، وضمي إلى أصحابي أكون معهم حيث كانوا.
فقال : ولا في هذا أيضا حيلة ؛ لأني لا أستجيز أن أنقلك من سعة إلى ضيق ، ومن كرامة إلى هوان ، ومن نعمة إلى شقاء.
فلما قال ذلك ، تبين في الانكسار وغلبة الغم ، فقال لي : بلغ بك الغم إلى النهاية ؟ فأخبرته : أنه قد بلغ بي الغم ، أن اخترت الموت على الحياة ، لعلمي أنه لا راحة لي بغيره.
فقال لي : إن كنت صادقا فقد دنا فرجك.
فسألته عما دله على ذلك ، فقال لي : إني وقعت في نكبات أشد هولا مما أنت فيه ، وكان عاقبتها الفرج.
وأعلمني أن بطرقة بلده لم تزل في آبائه يتوارثونها ، وأن عددهم كان كثيرا ، ولم يبق غير أبيه وعمه ، وكانت البطرقة إلى عمه دون أبيه ، فأبطأ على أبيه وعمه الولد ، فبذلا للمتطببين الكثير من الأموال لعلاجهما بما يصلح الرجال للنساء ، إلى أن بطل العم ، ويئس من الانتشار ، فصرف بعض الأطباء عنايته إلى معالجة أبي البطريق ، فعلقت أمه به .
فلما علم العم أنه قد علقت أمه به ، جمع عدة من الحبالى ، من ألسنة مختلفة ، منها العربي ، والرومي ، والإفرنجي ، والصقلابي ، والخزري ، وغير ذلك ، فوضعن في داره.
فلما وضعت البطريق أمه ، أمر بتصيير أولئك النساء كلهن معه ، وتقدم إلى كل واحدة منهن ، ألا تكلمه إلا بلسانها.
فلم تستتم له أربع سنين ، حتى تكلم بكل الألسنة التي لأمهاته اللاتي أرضعنه.
ثم أمر بتصيير ملاعبيه ومؤدبيه من جميع أجناس النساء اللواتي ربينه ، فكانوا يعلمونه الكتابة ، وقراءة كتبهم فلم تمر عليه تسع سنين ، حتى عرف ذلك كله.
ثم أمر عمه أن يضم إليه جماعة من الفرسان يعلمونه الثقافة والمناولة وجميع ما يتعلمه الفرسان ، وتقدم بمنعه من سكنى المنازل ، وأمر أن ينزل في المضارب ، وأن يمنع من أكل اللحم إلا ما يصيده طائر يحمله على يديه ، أو كلب يسعى بين يديه ، أو صيد بسهمه ، فكانت تلك حاله حتى استوفى عشر سنين ، ثم مات عمه ، وولي أبوه البطرقة بعد عمه ، وأمره بالقدوم عليه ، فلما رآه ، ورأى فهمه ، وأدبه ، وشمائله ، اشتد عجبه به ، فسمح له بما لم تكن الملوك تسمح به لأولادها ، وأعد له المضارب والفساطيط الديباج ، وضم إليه جماعة كثيفة من الفرسان ووسع على الجميع في كل ما يحتاجون إليه ، ورده إلى سكنى المضارب ، وأخذه بالاستبعاد عن منازل أبيه.
قال البطريق : فلما تمت لي خمس عشرة سنة ، ركبت يوما لارتياد مكان أكون فيه ، فبصرت بغدير ماء قدرت طوله ألف ذراع وعرضه ما بين ثلاث مائة ذراع إلى أربع مائة ذراع ، فأمرت بضرب مضاربي عليه ، وتوجهت إلى الصيد ، فرزقت منه في ذلك اليوم ، ما لم أطمع في مثله كثرة ، ونزلت في بعض المضارب فأمرت الطباخين ، فطبخوا لي ما اشتهيت من الطعام ، ثم نصبت المائدة بين يدي.
فإني لأنظر إلى الطبيخ يغرف ، إذ سمعت ضجة عظيمة ، فما فهمت خبرها حتى رأيت رءوس أصحابي تتساقط عن أبدانهم ، فتنحيت عن مكاني الذي كنت فيه ، وخلعت الثياب التي كانت علي ، ولبست ثياب بعض عبيدي ، ثم ضربت ببصري يمنة ويسرة ، فلم أر حولي إلا مقتولا ، وإذا فاعل ذلك بأصحابي منسر من مناسر البرجان.
ثم أسرت كما يؤسر العبيد ، واحتمل جميع ما كان معنا ، من مضرب وغيره ، وصاروا بي إلى ملك البرجان.
فلما رآني ، ولم يكن له ولد ذكر ، أمر بالتوسعة علي ، وأن أكون واقفا عند رأسه ، وسماني ابنه.
وكان للملك بنت ، وكان بها مغرما ، وكان قد علمها الفروسية ، ومساورة الفرسان ، ومساهمتهم ومراكضتهم .
فقال ، وأنا حاضر ، لجماعة من بطارقته : من منكم يتوجه إلى ملك الروم ، فيجيئني بكاتب من بلده ؛ ليعلم ابني الكتابة.
فأعلمته أن رسوله لا يأتيه بأكتب مني.
فأمرني أن أكتب بين يديه ، فكتبت ، فاستحسن خطي ، وقرنه بكتب كانت ترد عليه من والدي ، فرأى خطي أجود منها ، فدفع إلي ابنته ، وأمرني أن أعلمها الكتابة ، فهويتها ، وهويتني.
فمكثت معي حتى استوفت ثلاث عشرة سنة ، ثم عدت إلي يوما وهي باكية ، فقلت لها : ما يبكيك يا سيدتي ؟ فقالت : دعني ، يحق لي البكاء ، فسألتها عن السبب.
فقالت : كنت جالسة بين يدي أبي وأمي في هذه الليلة ، فغلبتني عيني ، فنمت ، فسمعت أبي يقول لأمي : أرى ثديي ابنتك قد تفلكا ، وأرى هذا الرومي قد غلظ كلامه ، وليس ينبغي أن يجتمعا بعد هذا الوقت ، فإذا جلست غدا معه ، فابعثي إليهما من يفرق بينهما ، حتى لا يراها ، ولا تراه.
قال البطريق : ومن سنة البرجان ، أن يكون الرجل يخطب لابنته زوجا ، حتى يزوجها ، ولا يخطب لها إلا من تختاره البنت.
قال البطريق : فقلت لابنة الملك ، إذا سألك أبوك ، من تحبين أن أخطب لك من الرجال فقولي : لست أريد إلا هذا الرومي .
فغضبت ، وقالت : كيف يجوز أن أسأل أبي أن يزوجني بعبد ؟ قال : فقلت لها : ما جعلني الله عبدا ، وأنا ابن ملك ، وأبي ملك الروم.
قال البطريق : وأهل البرجان ، يسمون البطريق الرومي الذي يتولى حد برجان : ملك الروم.
فسألتني : هل أخبرتها بحق ؟ فأعلمتها أنه حق.
فما انقضى كلامنا ، حتى جاء رسول الملك ، ففرقوا بيننا ، ولم يمض بعد ذلك ، إلا ثلاثة أيام حتى دعاني الملك ، فدخلت عليه ، فرأيت أمارات الشر مستحكمة في وجهه.
فقال لي : يا شقي ، ما حملك على الكذب في نسبك ؟ وأنا أحكم على من انتسب إلى غير أبيه بالقتل.
فقلت له : ما انتسبت إلى غير أبي.
فقال لي : أتقول إنك ابن ملك الروم ؟ فأعلمته أني أقول ذلك ، ودعوته إلى الكشف عنه.
فقال : لست أحتاج إلى كشف أمرك برسول أرسله ليعرف خبرك ، ولكن لي أشياء أمتحنك بها ، فأعرف صدقك من كذبك ، فدعوته إلى كشفها بما شاء.
فدعا بدابة ، ولبد ، وسرج ، ولجام ، فأمرني بتناول الدابة ، فأخذت الدابة من يد السائس ، ثم أمرني بأخذ اللبد ، فأخذته ، ثم أمرني بإلقائة على الدابة ، ففعلت ما أمرني به ، ثم أمرني بتناول السراج ، فأخذته ، ثم أمرني بشد الحزام ، والثفر ، واللبب ، وأخذ اللجام وإلجام الدابة ، ففعلت ذلك ، ثم أمرني بركوب الدابة ، فركبت ، وأمرني بالسير فسرت ، وأمرني بالإقبال والإدبار ، ففعلت ، ثم أمرني بالنزول ، فنزلت .
فقال ، عند ذلك : أشهد أنه ابن ملك الروم ؛ لأنه أخذ الدابة أخذ ملك ، وعمل سائر الأشياء مثلما تعمله الملوك ، فاشهدوا أني قد زوجته ابنتي.
فلما قالوا شهدنا ، قال : لا تشهدوا.
فلما سمعت قوله : لا تشهدوا ، تخوفت أن يأتي على نفسي.
ثم قال لي : لم أتوقف عن الشهادة رغبة عنك ، ولكنا لنا شرط لا نقدر أن نخالفه ، ولم نأمن أن تضطر إليه ، فنحملك على شرطنا ، وهو ما لم نخبرك به ، ونوقفك عليه ، فنكون قد ظلمناك ، أو ندع لك سنة بلدنا ، فنكون قد فارقنا سنتنا ، إن سنتنا يا رومي ، أن لا نفرق بين الزوجين إذا مات أحدهما ، فإن مات الرجل قبل المرأة ، نومناها معه في نعشه ، وحملناهما معا ، حتى ننزلهما إلى بئر هي مأوى موتانا ، وجعلنا معهما طعاما وشرابا لثلاثة أيام ، ثم أنزلناهما على البئر ، فإذا صارا إلى قرارها سيبنا الحبال عليهما ، وكذلك إن ماتت المرأة قبل الرجل ، جعلناها في سريرها ، وجعلنا زوجها معها ، وصيرناهما جميعا في البئر ، فإن رضيت بهذه السنة فبارك الله لك في زوجك ، وإن لم ترض أقلناك ، فلسنا نزوجك ، ولا تستقيم لنا على خلاف سنتنا ، فأحوجتني الصبابة بها ، أن قلت : قد رضيت بهذه السنة.
فأمر بتجهيزها وتسليمها إلي ، وجمع بيننا ، فأقمت معها أربعين يوما ، لا نرى إلا أنا قد فزنا بملك الدنيا.
ثم اعتلت علة كانت معها غشية ، لم يشك كل من رآها إلا أنها قبضت ، فجهزت بأفخر ثيابها ، وجهزت معها بمثل ذلك ، وحملنا على نعش واحد ، وركب الملك ، وأهل المملكة ، فشيعونا حتى وافوا بنا شفير البئر ، ثم شدوا أسافل السرير بالحبال ، وجعلوا معنا في النعش طعاما وشرابا لثلاثة أيام ، ثم حطونا حتى صرنا إلى قرارة البئر.
ثم أرخيت علينا الحبال ، فسقط حبل منها على وجه الجارية ، فأزال الوجع ما كان بها من الغشي ، فانتبهت ، فلما انتبهت ، رأيت أن الدنيا قد جمعت لي.
واستمرت عيني على الظلمة ، فرأيت في الموضع الذي أنا فيه ، من الخبز اليابس والخمر ماله دهر كثير ، فأخذنا نتغذى به جميعا.
وكنا لا نعدم في يوم من الأيام ، إلا النادر ، سريرا يدلى فيه زوجان ، أحدهما ميت ، والآخر حي ، فإن كان النازل رجلا حيا ، توليت أنا قتله ، لئلا يكون مع زوجتي غيري ، وكذلك إن كانت الحية امرأة ، تولت زوجتي قتلها ، لئلا يكون مع زوجها غيرها.
فمكثنا في البئر على هذه الحال أكثر من سنة ، ثم دلي في البئر دلو ، فعلمت أن مدلي الدلو غير برجاني ، وأنه لا يدخل ذلك الموضع غير برجاني ، إلا رومي ، ووقع لي أن أقدم الجارية قبلي ، لتتخلص ، ثم تعرفهم حالي ، فيردوا الدلو إلي ، فأصعد .
فحملت بنت الملك فجعلتها في الدلو بكسوتها ، وحليها ، وجواهرها ، واجتذب القوم الدلو ، فخرجت إليهم الجارية.
فإذا القوم مماليك لأبي ، ولم ينتبهوا للسؤال عني ، وهابتهم الجارية ، أن تقول لهم شيئا ، وقد كانوا رأوا ما فيه أمي وأبي وما غلب عليهما من الحزن لفقدي ، فصاروا إليهما بالجارية ليتسلون بها ، فسرا بها ، وسكنا إليها.
واستمرت الهيبة لهما بالجارية ، فحصلت شر محصل.
وقد كان لوالدي صديق ، له أدب وحكمة ، وعلم بالتصوير ، صور لهما صورتي في خشبة ، وزوقها ، وجعلها في بيت ، وقال لأبوي : إذا ذكرتما ابنكما ، واشتد غمكما ، فادخلا فانظرا إلى هذه الصورة ، فأنكما ستبكيان بكاء كثيرا يعقبكما سلوة.
فلما صارت الجارية إلى أبوي ، ورأتهما يدخلان ذلك البيت كثيرا ، ويخرجان ، وقد بكيا ، استوقفتهما يوما ، وهما داخلان ، فبصرت بالصورة ، فلما رأتها لطمت وجهها ، ونتفت شعرها ، ومزقت ثيابها.
فسألاها عن السبب فيما صنعت بنفسها ، فقالت : هذه صورة زوجي ، فسألاها عن اسمه ، واسم أبيه وأمه ، فأسمتهم جميعا.
فقالا لها : فأين زوجك ؟ قالت : في البئر التي أخرجت منها ، فركب أبي وأمي في أكثر أهل البلد ، ومعهم الغلمان الذين أخرجوا الجارية من البئر ، حتى وافوا البئر ، فدلوا الدلو ، وكنت قد سللت سيفي الذي كان أنزل معي من غمده ، وجعلت ذبابه بين ثديي لأتكئ عليه ، فأخرجه من ظهري ، فأستريح من الدنيا ، لغلبة الغم علي ، فوثبت ، فقعدت في الدلو ، واجتذبوني حتى خرجت ، فوجدت أبي ، وأمي ، وامرأتي ، على شفير البئر ، وقد أحضروا لي الدواب لأركب وأنصرف إلى بلادي ، وكان أبي قد صار ملك تلك البلاد ، فلم أطعهما ، وأعلمتهما أن الأصوب البعثة إلى أبي الجارية ، وأمها ، حتى يريا ابنتهما مثلما رأيتماني.
ففعلا ذلك ، ووجها إلى أبي الجارية ، وهو صاحب البرجان ، فخرج في أهل مملكته ، حتى عاينها ، وأقاموا عرسا جديدا ، وحدثت مهادنة بين الروم والبرجان جرت فيها أيمان مؤكدة أن لا يعدو أحدهما على صاحبه ثلاثين سنة ، وصار القوم إلى بلادهم ، وصرنا إلى منازلنا.
قال : ومات أبي ، فورثت البطرقة عنه ، ورزقت من بنت ملك البرجان الولد ، وأنت يا عربي ، فإن كان الغم قد بلغ منك إلى ما ذكرت فقد جاءك الفرج.
فما انقضى كلام البطريق ، حتى دخل عليه رسول ملك الروم يدعوه ، فمضى إليه ، ثم عاد إلي ، فقال : يا عربي ، قد جاءك الفرج ، كنت عند الملك ، وقد جرى ذكر العرب ، ورمتهم البطارقة عن قوس واحدة ، فذكروا أنهم لا عقول لهم ولا آداب ، وأن قهرهم الروم بالغلبة والاتفاق ، ولا بحسن التدبير .
فأعلمت الملك أن الأمر بخلاف ما قالوا ، فإن للعرب آدابا ، وأذهانا ، وتدبيرا جيدا.
فقال لي الملك : أنت لمحبتك لضيفك العربي تفرط في إعطاء العرب ما ليس لها ، وتصفها بما ليس فيها.
فقلت : إن رأى الملك أن يأذن في إحضار هذا العربي ، ليجمع بينه وبين هؤلاء المتكلمين ، ليعرف فضيلته ، فأمرني بحملك إليه.
فقلت : بئس ما صنعت بي ؛ لأني أخاف إن غلبني أصحابه أن يستخف بي ، وإن غلبتهم أن يضطغن علي.
فقال : هذه صفة العامة ، والملوك على خلافها ، وأنا أخبرك أنك إن غلبتهم جللت في عين الملك ، وكنت عنده بمكان يقضي لك فيه حاجة ، وإن غلبوك سره غلبة أهل دينه لك ، فأوجب لك أيضا بذاك ذماما ، وإن أقل ما يرى أن يقضي لك حاجة ، فإن غلبت أو غلبت فسله إخراجك من بلده ، وردك إلى بلادك ، فإنه سوف يفعل ذلك.
قال قباث : فلما دخلت على الملك ، استدناني ، وقربني ، وأكرمني ، وقال لي : ناظر هؤلاء البطارقة.
فأعلمته ، أني لا أرضى لنفسه بمناظرتهم ، وأني لا أناظر إلا البطريق الأكبر ، فأمر بإحضاره.
فلما دخل ، سلمت عليه ، وقلت له : مرحبا أيها الشيخ الكبير القدر.
ثم قلت له : يا شيخ ، كيف أنت ؟ قال : في عافية.
قلت : فكيف أحوالك كلها ؟ قال : كما تحب.
فقلت له : فكيف ابنك ؟ فتضاحكت البطارقة كلها ، وقالوا : زعم البطريق ، يعنون الذي هو صديقي أن هذا أديب ، وأن له عقلا ، وهو لا يعلم بجهله ، أن الله تعالى قد صان هذا البطريق عن أن يكون له ابن.
فقلت : كأنكم ترفعونه عن أن يكون له ابن ؟ قالوا : إي والله ، إنا لنرفعه ، إذ كان الله رفعه عن ذلك.
فقلت : واعجبا ، أيجل عبد من عبيد الله ، أن يكون له ابن ، ولا يجل الله تعالى ، وهو خالق الخلائق كلها ، عن أن يكون له ابن.
قال : فنخر البطريق نخرة أفزعتني ، ثم قال : أيها الملك ، أخرج هذا الساعة عن بلدك ، لا يفسد عليك أهله.
فدعا الملك بالفرسان ، فضمني إليهم ، وأحضر لي دواب البريد ، وأمر بحملي عليها ، وتسليمي إلى من يلقانا في أرض الإسلام من المسلمين ، فسلموني إلى من تسلمني من أهل الثغر.
ثم ذكر حديثا لعبد الملك ، مع الرجل ، لا يتعلق بهذا الباب فأذكره ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
لا يتوفر وصف للصورة.
١٤
تعليق واحد
٦ مشاركات
أعجبني
تعليق
مشاركة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق